الشطر الأول :عندما يعمُّ الكفر في الديار، فتُنصب الحجارة الصماء
البكماء على أنها آلهة الزمان والمكان.
عندما يعم الكفر فتشرق الشمس لتلوح لها الأيدي الضالة، وتسجد لها الرؤوس
الخاوية التي لم تعرف طريق خالقها بعد.
عندما يعم الكفر في الديار فتعمى الأبصار وتصم الآذان، ويصرخ الحق فلا
يُسمع كلام الله، وتعمى الأبصار فلا تُبصر آلاءه .
وضعت هاجر اسماعيل الصغير على الرمال مسلمة أمره لله تعالى، وأخذت تهرول
إلى جبل الصفا فتعتليه، عسى أن ترى من العلو ما لم تكن تستطيع رؤيته على
البسيطة .
نزلت هاجر من جديد لتتفقد وليدها.. الحمد لله لازال فيه رمق، عادت وهرولت
من جديد نحو الطرف المقابل حيث صعدت جبل المروة، أخذت تنظر بعيداً .. هل من
أحد يحمل قطرة ماء، هل من أدنى أمل !
أخذت تارة تنظر للأمام، وتارة تنظر للخلف نحو وليدها، وتارة أخرى نحو
السماء ترجو من الله الفرج .
صوت بكاء طفل صغير يدوي، لا أحد يسمع نداءه، ولا حتى جدار أصم يردد صدى
صوته. عند ذلك لابد أن يقرر إبراهيم عليه السلام أن يهاجر إلى
بلاد الله الواسعة..
من هنا تبدأ قصتنا عندما سار إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة، وحطوا
رحالهم وأنعانهم في بلدة نابلس في فلسطين أض كنعان.
كانت سارة قد اتعبها السفر والترحال مع زوجها، فبدأت تشعر بالوحدة إذ
لامؤنس لها غير زوجها ولاتدري ماذا تخبئ لها الأيام، ولم تكن سارة تنجب
أولاداً طلب من زوجها إبراهيم أن يتزوج من خادمتها هاجر علّها تنجب لهم
طفلاً يكون لهم أنساً في وحدتهم.
تزوج إبراهيم من هاجر، وشاء الله لهاجر أن تحمل فتلد طفلاً جميلاً، سيكون
بطل قصتنا هذه.
هل تعرفون ما سماه أبوه ؟ سماه اسماعيل.. !
كبر اسماعيل وترعرع وملأ البيت محبة ومرحاً، شعرت سارة بأن هذا الطفل قد
ملأ قلب وعقل إبراهيم فعطف عليه كما لم يعطف على أحد، فوقعت الغيرة في
قلبها، فلم تعد تصبر وضاقت الأرض بها حتى أشارت على زوجها أن يأخذ هاجر
وابنها ويرحلوا بعيداً عن ناظريها. وأوحى الله لابراهيم أن يصطحب هاجر وابنها إلى حيث يشاء
الله
رب ضارة نافعة، والخيرة فيما اختاره الله
مشى إبراهيم وهاجر تمشي وراءه على خطاه، تحمل صغيرها، مسلمة أمرها لله
تعالى!
أليست هذه أرض الله أيضاً، وإن غاب الناس فالله باق لن يغيب .
وصلت هاجر مع ابنها إلى أرض قاحلة، صحراء واسعة واستقر في وادٍ تحيط به
الجبال حيث مكة المكرمة الآن، لا ماء ولا أشجار ولا ثمار.. لا أنس ولابشر،
سوى الله، الله رب كل هؤلاء.
تركهما إبراهيم في ذلك المكان وقفل راجعاً ..
هل سيتركهم هنا يموتون جوعاً أو عطشاً ؟! تزوج إبراهيم من هاجر، وشاء الله لهاجر أن تحمل فتلد
طفلاً جميلاً، سيكون بطل قصتنا هذه.
هل تعرفون ما سماه أبوه ؟ سماه اسماعيل.. !
كبر اسماعيل وترعرع وملأ البيت محبة ومرحاً، شعرت سارة بأن هذا الطفل قد
ملأ قلب وعقل إبراهيم فعطف عليه كما لم يعطف على أحد، فوقعت الغيرة في
قلبها، فلم تعد تصبر وضاقت الأرض بها حتى أشارت على زوجها أن يأخذ هاجر
وابنها ويرحلوا بعيداً عن ناظريها.
العلم عند الله فلا يعلم إبراهيم شيئاً سوى أن الله أوحى إليه بذلك وماعليك
يا إبراهيم إلا الطاعة .
جلست هاجر على الرمال الحارة، حاضنة وليدها الصغير، أخذت تنظر يمينة: لا
أحد..!
نظرت يسرة: لا أثر، صحراء قاحلة، أرضها رمال، وأسوارها رمال، وأزهارها
وأشجارها رمال في رمال.
لم يطل المقام حتى نفد الطعام والشراب، ماالعمل؟
بدأت الساعة في عدها التنازلي وبدأ ناقوس الخطر يتهيء للطرق معلناً اقتراب
الأجل .
جف ضرع هاجر من اللبن، فلم يعد أمامها أدنى حيلة لإطعام صغيرها، ولا قطرة
لبن تضعها في فمه، أخذ اسماعيل يبكي، وزاد بكاؤه هاجر كمداً وحزناً .. هل
سترى وليدها يموت أمام عينينها وتقف مكتوفة ؟
ترددت هاجر بين جبلي الصفا والمروة سبع أشواط، ولكن دون جدوى ورضيعها يضرب
بقدميه الأرض جوعاً وعطشاً.. ويضرب ويضرب ..
ترى مامصير هذا الرضيع وأمه المسكينة!
ماذا سيحل بهم ! هل سيعطف عليهم ابراهيم ويعود، أم سيبقون في الصحراء
يأكلهم المجهول ! الشطر الثاني : توقفنا في الشطر السابق عند مشهد إسماعيل وهو يبكي ويضرب الأرض بقديمه
الصغيرتين، فيتناثر الغبار حوله، ليثير ضبابة تخفي وراءها مشهد حزن دامع
موسيقاه صراخ طفل وبكاءه.
فتهرول الأم يمنة ويسرة، تارة تصعد جبل الصفا، وتارة تنزل عنه لتستقبل
المروة، تبحث عن شربة ماء وسط هذه الرمال الحارة كمن يبحث عن إبرة وسط كومة
قش ! هل يمكن أن يجدها ؟
نعم يمكن أن يجدها إذا هداه الله لمكانها !
لنعد إلى إسماعيل الذي ملأ الوادي صراخاً وهو يضرب الرمال بقدميه، إنه يضرب
ويضرب، وكأن معولاً حديدياً يضرب بالصخر، فتخرج قطرات الماء وتنبثق من تحت
قدميه الصغيرتين .
شاهدت الأم ماجرى .. قطرات من الماء بين الرمال الحارة، من أين وكيف ؟ الآن
لايهم.. المهم كيف تحفظها لتسقي رضيعها الظمآن وتشرب
انحنت هاجر نحو نبع الماء الصغير وحضنته بكفيها، تخاف عليه من أن يتلاشى
بين الرمال، ويتبخر في هذا الحر، وهي تهمس له وكأنه يسمع ويعي ماتقول: زمي
.. زمي .. زمي ..
اغترفت هاجر من الماء وسقت رضيعها وشربت والفرحة لاتسع قلبها ..
ولكن هل انتهت معاناة قصة هاجر وابنها ؟!
على الطرف المقابل كانت قافلة من قبيلة جرهم تبحث عن مكان تحط فيه رحالها
وتستقر، ولكن ليس من السهل إيجاد ذلك المكان الصالح للعيش، وسط الصحراء
القاحلة.
لاحظ بعض رجال القبيلة الطيور تحوم حول مكان قريب منهم !
إنه شيء غريب! فالطيور لاتحوم إلا حول ماء أو طعام!
أرسل القوم رجلاً لاستطلاع الأمر ومعرفة الخبر، وماهي إلا لحظات حتى عاد
إليهم ملوحاً:
يابشرى هذا الماء.. يابشرى هذا الماء.
حط القوم رحالهم في ذلك المكان فشربوا واستقوا واستقروا فيه، وكانوا نِعم
الأهل لهاجر وإسماعيل الصغير الذي كبر وترعرع وسط رعايتهم وعطفهم.
لم تنتهي قصتنا هنا، ففي فلسطين أرض كنعان حيث سيدنا إبراهيم والد اسماعيل
كانت تدور الأحداث ساخنة ساخنة.
فقد كان إبراهيم يرى في المنام أنه يذبح ولده، ورؤيا الأنبياء حقيقة لا
يزاولها شك .
إنه وحي من الله تعالى وابتلاء بأن يذبح ابنه فلذة كبده وحيده وأمله في هذه
الحياة ؟
هل يذبحه فيذبح روحه معه، أم يعصي الله تعالى فلا يستجيب لوحيه؟ خياران
أحلاهما مرّ!
ولكن إبراهيم لم يتردد في تنفيذ أمر الله وطاعته مهما كان الثمن غالياً
قال إبراهيم لابنه:
(( بابني إني أرى في المنام أنّي
أذبحك، فانظر ماذا ترى، قال: ياأبت أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من
الصابرين )) أضجع إبراهيم ولده على الأرض واستل سكينه المشحوذة،
ووضعها على حلقه وأمرَّها بسرعة ليذبحه ويريحه..
إنه قضاء الله لابد من تنفيذه ولا فائدة من المماطلة، ولن يغير الحزن
والألم قدر الله.
لحظات وتفصل السكين المشحوذة رأس إسماعيل عن جسده، وبدأ إبراهيم يمرر
السكين على رقبة إسماعيل.
آه .. إن السكين لا تقطع رغم أنها مشحوذة ! مرر إبراهيم السكين مرة أخرى
على رقبة وليده، ولكن أيضاً لم تقطع، حاول إبراهيم مراراً ولكن دون جدوى.
في هذه اللحظات جاء فرج الله فنودي من السماء..
((
أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين، وإن هذا لهو البلاء
المبين، وفديناه بذبح عظيم )) لقد نجح الأب وابنه في اختبار الله،
وصبروا على ابتلائه فجاء الفرج جزاء الطاعة والصبر .
وصار ذبح الأضحية سنة متبعة يتبعها المسلمون، ويتقربون بها إلى الله تعالى
كما في عيد الأضحى والحج، وهم يتذكرون هذه الحادثة وكيف أن إبراهيم وولده
سارعا لتنفيذ أمر الله.
وبأمر من الله، وبهمة عالية، وبعمر جديد قد كتبه الله تعالى للأب وابنه بدأ
ابراهيم عليه السلام بوضع قواعد بيت الله بمساعدة ابنه اسماعيل.
راحا يحفران الأرض، ويرفعان القواعد فكان إسماعيل يجلب الحجارة ويهيء له
مايلزم من مستلزمات البناء بينما كان إبراهيم يبني ويرصف
انتهى بيت الله من البناء وها هو ينتصب وسط الصحراء ليكون هذا المكان أطهر
مكان على وجه الكرة الأرضية.
وأمر الله إبراهيم أن ينادي الناس ليحجوا فقال:
((
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق،
ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على مارزقهم من بهيمة
الأنعام، فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير، ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا
نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق )) وصل نداء إبراهيم عليه السلام إلى الناس جميعاً وهو يخترق آفاق الزمان
والمكان، فجاء الناس من كل أصقاع الأرض ملبين من كل حدب وصوب يحجون إلى بيت
الله الحرام في تلك السنة وفي كل سنة حتى يومنا هذا ملبين نداء الله
بقولهم:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لك لبيك.
والآن ونحن نعيش أيام الحج هل نتذكر هذه القصة ونتعلم منها الدروس؟!