مزيان طارق
عدد المساهمات : 844 وطني : 0 139194 احترام القوانين :
| موضوع: السجين الثلاثاء 09 فبراير 2010, 14:50 | |
| السجين
داخل الزنزانة
تعودت إلى درجة التآلف مع العتمة المطبقة ، والرائحة الكريهة ، وجدران الإسمنت الباردة الملطخة ، في زنزانة انفرادية حيث حشرت بها منذ شهور ... سنوات ... . لم أعد قادرا على عد ما مر أو بقي من الزمن . ليل دائم مسترسل ، يذكرني بعيش كائنات غير تابعة لنظامنا الشمسي . نهارها كليلها ووقتها ليل سرمدي بلا انقطاع . ودعت الشمس ودفئها لما عصب جلادي عيني وكتم أنفاسي وساقني إلى المجهول . تساءلت مرارا عما اقترفت من جرم ، فلم أعثر على جواب . . سوى أني ( إرهابي ). حرمت من الضوء والهواء والفضاء الشاسع ، فاستعضت عنها برحابة صدري واطمئنان نفسي . لم يعد هناك فرق بين أن أجوب مسالك وأزقة مدينتي أو أن أتجول داخل زنزانتي ، أصغي إلى زقزقة الطيور الأسيرة فوق أبراجها ، وأستمتع بخرير الجداول المحملة بسيول الدم المسفوح . وأتأمل وردا متفتحا ذا لون قاني متموج ، تنبعث منه رائحة كريهة مقززة. وهم جلادي حين ظن أني حبيس جدران الإسمنت ،هناك، وراء قضبانه الحديدية السميكة ، محكمة الإغلاق والإقفال . بل إني طليق أرفرف في الفضاء . أستعير أجنحة فراشة زاهية الألوان . أنطلق في الفضاء ، تذروني الرياح ، فأجوب الحدود والمحيطات ، ثم أقطع الوهاد والفيافي والجبال . أزور كل حين والدتي . أخفف من لوعتها على فراقي . أكفكف دمعها ، وأمسح بمنديلي المطرز المخروم المتهدل وجنتيها . أشكو لها ضعفي ونفاذ صبري . تواسيني بقص بعض صور طفولتي الضائعة بين جمر الحرمان وقهر الاستبداد . تذكي حماسي وتقوي جلدي . أتوسد ركبتها اليمنى وأتتبع رنات نبضاها الواهنة الحزينة ، إلى أن أستسلم للنوم العميق . كما أعرج خلسة على حجرة زوجتي . أسلم ، وأداعب طفلتي الرضيعة ، واطبع على وجنتيها قبلات الشوق والحنين . نادرا ما أقبع داخل جحر الزنزانة البغيض . وحين آوي إليه أشتغل باسترجاع التفاصيل المملة لذكرياتي . عز علي بعدي عن قرطاسي وقلمي . تراكمت أمامي الأحداث فشرعت في تدوين مذكراتي بحلمة السبابة على حائط زنزانتي . ارتسمت كلها نقوشا محفورة في ذاكرتي ، تستعصي على المحو أو النسيان . الوقت ينساب ببطء شديد ، تكسر تموجاته الهادئة الرتيبة إطلالة السجان من كوة المراقبة ، لإلقاء قطعة خبز محشوة بقليل من الأرز أو الذرة ، وأحيانا تصحبها قنينة صغيرة من الماء . إنها الوجبة اليتيمة في اليوم . حياتي كلها ليل بهيم ، يتنازعني خلاله الموت والحياة . أسلم أمري وأستسلم . استرق سمعي خطوات قادمة نحوي ، خلتها هواجس كسابقاتها . هب ريح بارد كالسموم، وتسلل ضوء خافت لفني من كل جهاتي . باب الزنزانة الحديدي يفتح ، أسمع أحدهم يقول : رائحة كريهة هنا ، ألا زال هذا حيا ؟ دهسني بحذائه ، و خاطبني يسألني عن جرمي وفصيلتي ، تجاهلته كأني لم أفهم ، وأدرت وجي عنه ردا على إمعانه في إهانتي . لم يبق لدي ما أعتز وأفخر به سوى إنسانيتي وكرامتي . أشار إلى مرافقيه ، نظفوه وعالجوه ليعرض بعد أيام على التحقيق . لسعتني أضواء الشمس وكأني أولد من جديد . قدماي لا تقوى على حملي . أطرافي ترتجف وتحول دون تحكمي في حركاتي . تكلم المحقق ، وأشار بكلتا يديه نحوي متسائلا : أين وجدتم هذا ؟ عثرنا عليه في إحدى الزنزات المعدة للترميم والإصلاح ... وكلما نعلم عنه أنه هناك منذ سنوات . .. أطرق قليلا ثم أضاف : تخلصوا منه حالا ، عبئوه في كيس واطرحوه داخل وعاء القمامة بأحد شوارع مدينته ، لتنهشه كلابنا الضالة الموزعة هنا وهناك ... | |
|