يا طلبة الجامعة إني لا أراكم بخير؛ لأنَّكم أصبحتُم غُرباء عن بيئةِ الجامعة الَّتي اعتدْنا أن نراها أو نسْمع عنْها فيما مضى، ولا ندْري كيف أخذت بكُم السبُل إلى تلك النتيجة التي تُرى الآن؟!
فالجامعة ليست ملابسَ جديدةً نتأنَّق بها في بداية كلِّ عام، وليستْ صحبةً من أصدِقاء، ربَّما ليسوا أصدقاء، وليستْ ناديًا من النَّوادي نُمضي به الوقت حتَّى يَحين موعد العودة إلى البيت، وليستْ وليست، وأنتم تعرفون ما أقصد.
حقًّا، يا للعجب فيما قيل وما يقال!
أنمضي أيَّامًا طويلة في شراء ملابسِنا ونعتني جيِّدًا بمظهرنا، ونَحن من الدَّاخل أقْرب إلى الصَّحراء المقفِرة من الأرْض المزهرة؟!
أنقول ألفاظًا خاصَّة غريبة عن لغتِنا وثقافتنا ومجتمعِنا، ولا يفهمُها غيرنا، ثمَّ نقول: إنَّها "روشنة"؟!
أيعْرف أحدُكم ما معْنى روشنة؟ وما أصْل الكلِمة كي تُرَدِّدها الألسُن وتتناقلُها السِّير والأحاديث؟ بالطبع لا يعرف أحد!
لا تقولوا: إنَّها لغة العصر، فالأمر ليس كذلك، فلغة العصر تكون مفهومة من أهل عصرِها، ولا تخالوا ملابسكم بملابس، بل قِطَع قماش من "الجينز" ربَّما كانت مرقَّعة، في الصَّيف عارية غير محتشمة، وبالشِّتاء هلاهيل وأسمال بالية!
لا أقصد الإهانة أو السخرية، فعفوًا ما قصدتُ إلاَّ الخير لكم، فعهْدي بالجامعيِّ والجامعيَّة السَّعي والوعْي والتَّعَب، ولَم أرَ مِن ذلك إلاَّ أشباهًا بالية، فأنتم تتسرَّعون ولا تنتظِرون حتَّى تفكِّروا ولذلك عواقبه، وأنتم أدْرى بأنفسكم، عودوا إلى تجارب الأجيال الماضية، تحدَّثوا إلى أقاربكم وتفهَّموا منهم كيف كانوا يقْبِلون على حياة الجامعة بروحٍ طموح وبنفس راضية، كانوا يحرصون على حضور كافَّة المحاضرات والنَّدوات والمناقشات، ويروْن الغد كأنَّه واقع سيَلْمسونه قريبًا.
أعلم أنَّ الظروف غير الظروف، والمشكلة أنَّ ظروفهم هي الَّتي كانت أصعب وأشقَّ، فقد كانوا ينتظرون على الطُّرق قبل أن تصبح طرُقًا بالسَّاعات الطَّويلة، في انتِظار حافلة تنقلهم إلى جامعتِهم، وعانَوا الأمرَّين كي يوفِّروا أقلَّ احتِياجاتِهم المعيشيَّة والعلميَّة في بيئات غير بيئتِهم الاجتِماعيَّة والعلميَّة والاقتِصاديَّة، ونادرًا ما استطاع أحدُهم شراء كتُبه لقلَّة الحيلة وسوء الحالة، ولكنَّهم عوَّضوا ذلك بالعمل الشاقِّ المثمر في مذاكرتِهم، ولم يبخلوا كي يتعلَّموا ويفهموا الحياة من حولهم.
والآن نأتي للنقْطة الَّتي نادى بها الجميع منذُ بدأ يقرأ هذه الكلمة: لماذا كل هذا؟ ولِم أتْعب وأسهر؟
فأقول: وماذا تنتظِر من المجتمع بعد أن يستنيرَ قلبك وعقلك؟ وظيفة ما، وهل منعك أحد؟!
إنَّك أنت الَّذي يمنع نفسه من العمل؛ لأنَّنا لا نُريد أن نتعب أو نَجري وراء فرصة عمل، ولأنَّنا نضع العقدة في المنشار؛ بحجَّة أنَّنا لا نريد العمل في وظيفةٍ أقلَّ من قدراتنا.
أهذا أهْون أم أن نظلَّ عالةً على أهلنا، حتَّى بعد تخرُّجنا؟!
لماذا تنتظر أصلاً؟! لماذا لا تبدأ العمل إلاَّ بعد الانتِهاء من الدراسة؟ نعَم، لم لا تكون عصاميًّا منذ دخولِك الجامعة على الأقل، وتنفق على ذاتِك وتُريح كاهل أهلِك من مسؤوليَّتك، وتبدأ خطوة جادَّة مبكِّرة من حياتك في كيفيَّة الاعتماد على ذاتِك ومواردِك؟!
لم ننتَظِر الانتهاء من الجامعة كي نبحث عن فرصة عمل؟! فطلبة الغرْب أبرع منَّا في ذلك، مع أنَّنا نملك ما يفتقِرون إليه، نملك عالم الرُّوح والمادَّة معًا، أمَّا هم فإنَّهم لا يقنعون إلاَّ بالمادَّة، ولا يعترفون بعالم الرُّوح؛ ولذا فإنَّهم قلَّما واصلوا حياتَهم دون أن تواجههم أمراضُ النَّفس وعلل السَّريرة والروح، وبالرَّغم من ذلك فإنَّهم يُشكرون على نجاحهم في حياتِهم، وإن كانت مادّيَّة، ويبدأ ذلك النَّجاح منذ الصغر، حينما يحرص الأبُ على تعليم الابْنِ حرفةً أو تنمية مهارة أو موهبة تُصْبِح له سندًا، وذلك بجانب تعْليمه وترْبِيته، فحينما يشبُّ الفتى أو الفتاة فإنَّه يكون قد انغرس في الحياة العمليَّة، ويدخل الجامعة وقد وفَّر لذاتِه مصدرًا ثابتًا يُنْفِق منْه على نفسه، ولا يأْبه الشَّابُّ هناك من العمل بأيِّ حرفةٍ طالَما سوف تدرُّ عليْه دخلاً محترمًا، وحينما يُنهي جامعتَه فإنَّه لا ينتظِر القوَّة العاملة كي توظِّفَه، بل يتحرَّك في أكثر من اتِّجاه، ويعمل في أكثر من عمل حتَّى يجِد الأفضل والأمْثل.
اطلبوا العلم لِذاته وقدِّروه واحترموه في مظهركم وجوْهركم، فإن حصَّلتموه وكان عونًا لكم على الحياة، فهو أفضل، وإن لم يحدُثْ فليكفِكُم شرفُه وأدبه واجتهادُكم في تحصيله، وابحث عن أيِّ حرفةٍ شريفة دون خجَل أو ندم على سنوات دراستِك، فأنت لم تدرس لأحد؛ بل لنفسك، ولم يفِد بذلك سواك، وهنا ربَّما اقتنعتَ بِضرورة الفصْل بين تَحصيل العلم وبين ارتِباطه بضرورة الحصول على فُرْصة عمل، وبخاصَّة الحكوميَّة.
ولكم في رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أسوة حسنة، هو وصحابته وتابعوهم الكرام البررة، الَّذين جابوا مشارق الأرْض ومغاربَها من أجل تَحصيل العلم لذاته، ولم يطلبوا لأجلِه منصبًا أو سلطانًا.
أليس كذلك يا طلبة الجامعة؟!